20/12/2024*.. أو لأننا لا نشفى من محبة سعدية صديق
لم نعد نكتب أبدا تقريبا. كنا نعاني. وكنا نشعر تماما بما فقدنا. كنا نتفق أن نكتب معا، نضع مفاتيح اللعبة ثم تتوقف الرسائل على الهاتف. ونواصل في اليوم التالي الحديث عن أي شيء ونتفادى ما يؤلمنا. نثير الأمر بعد فترة. تشجع كل منا الأخرى ونحاول أن نكتب. كنا نفشل أكثر مما نحتمل. وكنا نتجاوز الأمر ونحاول مرة أخرى. ونفشل. وحين نفعلها أخيرا كانت النصوص تعاني التشوهات كولادة متعسرة كلاسيكية.
كانت نصوصي ضعيفة، ساذجة، ومثيرة للشفقة. ولكننا كنا نفرح بها كأمهات طبيعيات، ولأننا لازلنا نحاول، ونتشجع لأننا لم نستسلم بعد. ولكن كتابتها كانت جديدة دائمة ومختلفة. كانت تجرب في كل شيء. كل مرة كانت تلتقط حجرا ما وتصنع منه شالا، منضدة، ربما بوابة حديدية. كانت تفعل ذلك ببساطة كل مرة.
كانت الأدوية تسحب الحياة من كلتينا لكنها كانت تعرف كيف تجعل الأحجار تضيء في العتمة رغم آلام جسدها المتعددة. لم تكن تشتكي أبدا أو تتذمر. بينما كنت أمطرها بالرسائل ثم إن لم أجد ردا في الحال أتصل وأنا أبكي واحكي لها ماحدث وأنا أبكي كطفل صغير، ولسبب غير معلن كنت أهدأ دون أن تقول الكثير. كنت أشعر بالأمان حولها. كنت أشعر بالأمان في وجودها دائما، وأشعر أن كل شيء سيكون أفضل. وكان يفعل.
***
أو أحاول أن أفسر غرابة ما أشعر به تجاه شيء ما، أو كم أكره مصطلح "الونس" الذي يتحدث الجميع عنه في مرحلة ما ويبدو مثيرا للغثيان. أن أشتكي مثلا من محاولاتي للنجاة كل يوم ويسألونني عن"الشغف"!
أتذكر أنني لم أكن أفهم هذه الكلمة. سيبدو ذلك مضحكا ولكن كلما تعرضت لها كانت تثير غضبي لأنها كانت تبدو مكتوبة بلغة لا أفهمها. تشبه رسمة لا حروفا وكل محاولات قراءتها تبوء بالفشل. وكانت تريند بشكل ما. كنت لا أفهمها بالمرة ولا يخلو يوم من مصادفتها هنا أو هناك. وكل مرة كانت تثير غضبي الشديد كطفل أحمق وعنيد، وكامرأة تعاني لتبقى حية كل يوم وتستعمل الكلمة ذاتها كي تندمج، كي تتفادى أن يلاحظ الآخرون غرابتها وادعاءها.
يومها كنت أحكي لها كمن يبحث عن إجابات تعينه على رؤية ما بداخل الصندوق الصدئ الذي يزحف خلاله. وبينما كنت أحكي وأسخر مني ومن الجميع قالت" اعتقد الشغف يعني السهولة في فعل الأشياء" وحينها توقفت للحظات الكلاب التي تنبح في رأسي وأمكنني سماع الدم يتدفق داخلي دون أن يشعل ذلك أعصابي، واستوعبت لم تعذر علي فهمها ولم تثير حنقي لهذه الدرجة وغلبني نعاس.
***
كانت تكتب أجمل مني بكثير. ولم يكن يضايقني ذلك. كنت أفخر بها كشيء أنجزته بنفسي. توقفت قدرتي عن الكتابة منذ بدأت تقريبا وكنت أقول ستفعل هي عنا معا دوما. والآن كل يوم يمضي يسحق الندم ذاكرتي المعطوبة.
كنا اتفقنا أنني حين يكبر الأولاد سأشتري شقة قريبة منها في بدر. ستأتي لتعيش معي، سأعتني بها ونكبر سويا. تخيلتنا في البلكونة أخيرا. عجوزتان في بلكونة مشمسة ومليئة بنباتات وأعشاب مختلفة نتابع الشارع ونحكي سويا في أشياء بسيطة وقديمة. ننتقد الجميع ولا شيء يعجبنا. لم نتفق أن نفترق يوما. لم نفكر في الموت الذي يحوم حول كلتينا كل يوم. وكنا ننتظر ذلك اليوم ونضحك بشأن عثراتنا التي لا تتوقف ونعزي نفسينا أننا سنتقاعد يوما معا من كل هذا التعب.. في بلكونة دافئة، مشمسة، وحنونة.
***
رأيت منذ سنوات مقطعا لمجموعة من الناس يسألهم عن أكثر ما يندمون عليه. اختلفت ردودهم لكن في طبيعتها كانت واحدة. اتفقوا أنهم يندمون على الأشياء التي لم يفعلوها. وبدا لشخص متخبط مثلي كتيب إرشادات أخيرا. قلت ربما علي أن أن أتوقف عن الاحتراق مكاني. لكنني اكتشفت مؤخرا أنني كان علي فعل الأشياء بشكل مختلف. وأنني أندم على طرق كثيرة سلكتها دون أن أتوقف لأنني أضعت أوقاتا أيضا في أشياء لن أتذكرها يوما. وأنني آذيت نفسي كثيرا، وآذيت آخرين أكثر. وأنهم لا يملكون هشاشة ذاكرتي. وندمت على ذلك كثيرا دون أن أستطيع تذكر ماذا كان.
أندم على أوقات كان علي أن أقضيها معها. وأندم لأنني أحبها بهذا القدر. وأندم لأنني أحبها كل يوم أكثر. وأندم لأنني لم أخبرها ذلك بما يكفي. وأندم لأنني فقدتها، وأندم لأنني أفتقدها كل وقت. وأندم لأنني لم أحمها وأرعاها كما نويت وأندم لأنني لم أحبها بما يكفي، ولم أحبها بشكل أفضل، وقطعا لم أحبها بقدر ما تستحق. وأندم لأنني. وأندم لأنني أندم على كل ذلك.
***
"
١
تؤلمني أنوثتي.، تدفن رأسها تحت جلدي كبصيلة شعر مدفونة. عمياء لا ترى انعكاسها في المرايا ولا تعرف كيف تداري أسنانها اللبنية حين تبتسم. ولأنني أجيد المحاكاة والتأقلم كنبتة صحراوية استعضت عنها بأمومتي. كان ذلك متعبا طوال الوقت ومدعاة لخيبة الأمل.
٢
يتوجب عليها أن تجري طوال الوقت وتطهو طعاما مختلفا كل ساعة وأن تحفظ المواعيد، وتسأل عن الحال، وتطهو وتتابع الضوء والليل وتطمئن على الحال والكتاب والقلم والملل والضيق وشاحن الهاتف وتطهو وتفتقد وتسمع، وتحب وترى وتحفظ وتطهو وتبكي وتخاف وتضحك وتتفقد وتمشي كثيرا حتى تفقد الرماد الذي يتخزن تحت جلدها وتبكي حين كان عليها أن تحب. كان عليها أن تكبر.. تزهر وردتها، وكان عليها أن تُرى.. وأن تحب." 20/12/2024 *
* آخر ما كتبته في لعبتنا الوحيدة. عثرت عليها منذ قليل وأردت أن أضعها هنا لكنني استطردت لأنني أفتقد صاحبتي.. كثيرا. ثم لم يعد لأي شيء أهمية.
تعليقات